البيادر …… عمر الرشدان (عمر المدني)..دير ابي سعيد
كتبهاعمر المدني ، في 18 أغسطس 2010 الساعة: 02:55 ص
البيادر
شهر حزيران في ذاكرة الفلاح عرس سنوي يحتفل به ، يؤدي به طقوسا قد لا يحفل بها الاخرون. حزيران غير الاشهر الاخرى على خارظة عمر الفلاح.
ففيه تكوم البيادر الذهبيه هنا وهناك. فيه فرح لقراءة ارض طول عام كامل ، وها هي النتائج لخمرة العام القادم.
تستريح مناجل القمح من معاركها مع السبل ، تجاز اجازة طويلة حان وقت الشاعوب الان ، والمذراة الملفوفة اسفل الاصابع ، وعلى رسغها تلك الجلدة السوداء الملتصقه باحكام ، لوح الدراس يوقظ من سباته الطويل لاشغال نوبته ، الغربال والتشربال ، الخيول والحمير ، وان كانت اجازاتها متقطعه ، انها تستدعى الان من التبان المجاور.
انها البيادر.
ما اجملك وانتي تلمعين تحت قرص الشمس ، تفاخرين بسبلك وقصلك ورائحتك
بعد ان ياخذ الجد ( الختيار) القرار لاقامة عرس البيدر هنا ، يتم نصب خربوش بتكون من شوالات خيش مخاطه مع بعضها البعض باهمال ، تثبت على اعمدة متوسطة الطول (وعادة غير مستقيمه ) تهفها الرياح، فترسل تلك الطرقعات اللذيذه فوق الرؤوس ، ونحن متكورون تحتها درءا لحر القيظ .
على الارض وتحت الخربوش ، يتكىء ( قلن 5 لتر للشرب) ملفع بقطعة خيش ترش بالماء من وقت لاخر ، او تبلل بما تبقى من الكاس بعد الشرب. الى جانب ذلك ، ( قلن جيشي حديدي 20 لتر) وغالبا كان يحمل بصمة (ج.ع)، وابريق اخضر للوضوء يقف امام الخربوش بقاعدته المتسخه بطين احمر " حرث" وفي اذنه خيط مصيص متآكل..
منجل لف قبل قليل بخرقة وثبت الى احدى الدعامات بعد ان غز راسه بالخشب ، بابور كاز نمره "2" لا يبعد كثيرا عن منطقة السكن ( الخربوش) والى جواره ملقى طاسات فارغه وصحون ومعالق معفره بالتراب ، وكاسات شاي لم تغسل جيدا قبانت بصمات الايدي عليها بوضوح.
بعد ان يرفع السبل ويلم الى الاعلى بالشاعوب ، ويسمح للنسوه باقتحام القش لبدي المناسف والاطباق والصواني القشيه يكون الختيار ((بدكنه الاقرب الى الرمادي)) قد اتم اكثر من دورة حول البيدر، يغسل عرق العام بتلك الفرحه المتدفقه من القلب بعفويه.
يعتمد تجويف صخري تسكن في حضنه زيتونه كمطبخ ، والهدف الابتعاد قدر الامكان عن القش الذي يتلهف للخلاص من حبه بعد حمل ومخاض طيلين ، وبعدما تكون الشمس قد أصلته بانفاسها الملتهبه..
يقرفص الختيار الى جانب الخربوش ، يخرج علبة الهيشي ، ويبدا بلف سيجاره وعيناه شاردتان الى البيدر الجاثم امامه بزهو. يصدر الاوامر ان تجهز العده : ( البهائم ، لوح الدراس بعدما تتفقد احجاره الملتصقه في بطنه ، الحبل).
يبدأ الدراس. تلف الدواب ساحبة لوحا خشبيا ثقيلا واملسا، وبطنه مرصع بحجارة سوداء مخرمة تثير دهشتنا.
بادىء الامر يكون القش مساو بارتفاعه ما فوق ركبتي البهائم التي تغافل الجد لتنهش اثناء دورانها فينهرها بحزم.
كنا نتابع الدوران مع البهائم الطائفه برتابة ، ويبدا البيدر بالتضاؤل والتقزم الى ان يصبح حوبة ( البيدر المدروس شبه ناعما ولا يرتفع عن الارض الا بقامة فتر او شبر).
كنا ننفذ اوامر الجد الذي احيانا يعتلي اللوح ليضيف ضغطا اضافيا على اللوح السابح على القش بهدوء. كنا ننفذها لا رغبة بالطاعه بل طمعا في امتطاء اللوح وغالبا ما كنا نحظى بهذه الامنيه ، بعدما تكون الجده قد تدخلت .
تبدا الرحله بالجلوس على اللوح بتصنم وتسمر، ثم القرفصاء ثم شبه الوقوف فالوقوف اختبارا للصمود، وذك اذا ما شعرنا بتسامح اكبر من الجد المشغول بادارة البهائم.
تغيب الجده في ذاك التجويف الصخري ، ويسمع وشيش البابور بتواتر، وذلك حسب دوراننا على البيدر. فاذا كنا الى وجه البيدر، سمعنا بكاء البابور تحت ابريق الشاي، وعندما ننكسف بالبيدر المعترض يخفت البكاء فتتشكل نغمه جميله. ويكون الجد قد رمق بنظره الابريق ،واسترق بسمعه الوشيش فتسري على وجهه فرحة مخفيه.
بعد وقت قصير يختفي الوشيش بعد تنفيسه طويله للبابور، ويحمل الابريق الموشح بسواد الكاز بخرقة مبلوله الى طرف البيدر.
بشدة حبل، يتوقف الدوران. يقرفص الختيار ويبدا بشرب الشاي. نآثر شرب الشاي على ترك اللوح فنلتصق على ظهره. ننهر البهائم لتنطلق فتابى.
كان جدي يطلق تلك العبارات التي حفظناها لكثر سماعها : ( متاكده يا حرمه انه البابور انطفى وبرد؟ ، اقعدوا يا ولاد ، جيبوا لي ميه…….).
تدور الساعه. ويحبو الزمن وتختلط بهذا الزحف اهزوجة منطلقه من فم الجد لطرد التعب او للتعبير عن الفرح. ويتحول القش المشاكس الى تبن وحب.
تسحب البهائم، تعرى من مراشحها، وتكافا بحشو راسها قي عليقة شعير دسم، يدفع اللوح ليقف على حرفه بعد اسناده الى حجر صوان غائص لسرته في الارض.
للمذراه رعاية خاصه تختلف عن الشاعوب . تحمل برفق ولا يسمح للصغار بتداولها. هذه المذراة بخفتها وباسفل اصابعها الموقاة بكف جلدي تفعل العجب. بحركتها القوسيه البندوليه تطرد التبن مبقية على الحب المتزايد في الارتفاع كالتلال الصغيره.
تقترب الجده من البيدر بعدما تكون قد جمعت ابريق الشاي والكاسات حذر ان تدمل بالتراب ، وتقوم باعمال متعدده : تلم هنا…. تنقي ….تكمش….. تزيح… تغربل…… تنفخ…… وتهلل.
الحمام في هذا الوقت يتجرأ اكثر على الاقتراب من البيدر، لنيل حصته امام نظر الجميع فيفزعوه. يطير ليس بالبعيد فيعود ويثابر على ذلك حتى ننكس نحن ونخضع. اسراب النمل تفترض لنفسها حصة وتشق طريقها ذهابا وايابا امام تكرار كلمات الجد بالتعجيل بتشويل الحب.
يطلب ماء من جديد ويحضر له الماء بعد اعادة الطلب مرات ومرات لان اللوح قد انكفى للعام القادم.
كان يحضر الى البيدر غرباء يساومون الجد على القمح والتبن احيانا. كنا في دواخلنا ندعو الله ان لاتتم الصفقه لا لشيء بل طمعا بنقل هذا المحصول وعلى دفعات بالبكم (نيسان جونيور). نعتلي الحموله بالذهاب ونتسمر على دفته العليا (فوق غرفة السائق) في العوده منفجرين بالضحك على الشعر المتطاير بعنف الى الخلف او على الهواء المجتاز وجوهنا بدغدغة لذيذه.
رحل البيدر ورحلت الذكرى.
جاءت حصادات الشمله وفي كل سنبلة تجتثها كانت تجتث معها شريان الحب القديم، تحزمه وتدوس عليه كارشيف للذكرى.
كبرت الحياة او كبرنا فحضرت الحصادات الكبيره لتحصد وتشول وترمي بالات القش المربوطه باحكام ونحن لا يسعنا الا لنظر والتحسر والتذكر…نعم هي تقدم لنا الحب (بفتح الحاء) ولكنها تسرق الحب ( بضم الحاء).
المنجل بشكله كاشارة الاستهام يتساءل عما حصل. المذراه بيدها واصابعها الخمسه مسلطه الى السماء تدعو. اما الشاعوب فانغرس في الارض بصمت تاركا عصاته الطويله شاهدا على ايام رحلت وذابت بلا عوده.
عمر المدني
صباح الاربعاء
18/8/2010
8/رمضان
5:30صباحا
دير ابي سعيد
أغسطس 19th, 2010 at 12:49 ص
رغم انه اسمك عمر المدني الا انك فلاح اصلي بهذا الوصف
احسنت
أغسطس 27th, 2010 at 8:07 م
قراتها اكثر من 10 مرات وكنت استمتع في كل مره اكثر
أغسطس 29th, 2010 at 7:14 م
والله كلامك برجعني لايام العز
سبتمبر 1st, 2010 at 1:05 ص
فعلا انها كانت ايام خير
يسلم قلمك هالوصف جميل كثير
سبتمبر 24th, 2010 at 11:14 ص
مدهش بالوصف الدقيق
سبتمبر 27th, 2010 at 5:53 م
عندك نفس روائي
انا فخور بكلماتك
أكتوبر 28th, 2010 at 11:53 م
ياه كم انت رومنسي
نوفمبر 14th, 2010 at 5:19 م
الله يفتح عليك
فبراير 19th, 2011 at 4:54 م
ابدعت
أبريل 12th, 2011 at 2:56 ص
الاخ السيد عمر لقد عرفتك ببرنامج الماجستير باليرموك فقد كانت تلك الايام اجمل من الشهاده بحد ذانها فقد كنت ياصديقي مثالا بالعلم الذي يصعب وصفه، قوي البلاغه بالانجليزيه فطحل زمانه
الاخ عمر كان مرجع للطلبه والمدرسين ان جاز الكلام متمنيا ان اصل لنصف ماوصلت به ياعمر ياابن البلد الطيب اهلها متمنيا لك الوفق بالحياه
فقد كنت ملهمي ومعلمي واخي
مايو 30th, 2011 at 4:45 م
اخي الاستاذ عمر…. مرة اخرى الكلمات تقف عاجزة عن التعبير امام شخصكم الكريم…. ومهما نكتب فلن نعطيك حقك… لقد اعدتنا الى ايام البيادر وايام الخير وذكرتني بايام الخير والبركة عندما كانت الاسرة لا بل العشيرة والقرية كاملة تأكل على صحن واحد… رحم الله ايام زمان يا استاذي الجليل… اسأل الله ان يحقق كل امانيك وشكرا جزيلا على هذا المقال الرائع والذي يحاكي الواقع واتمنى ان تعود ايام البيادر.
أكتوبر 11th, 2011 at 6:47 م
ح
أكتوبر 11th, 2011 at 6:53 م
على فكره يا عمر احلى ما في البيدر نحن الصغار عندما كنا ناخذالاذن من الاب او الجد الاذن بركوب ورفش البيدر قبل مرحلة اللوح عندما كنا نتصارع مع بعض من اجل تسهيل ( تخفيف علو البيدر) كانت الحركات اروع من كل الحركات احلى من الجمباز واصعب كنا نتقاتل ونتشقلب واهم من كل شي الضحكات التي لن تعود